ألمانيا- معاداة الإسلام تتصاعد تحت ستار حماية اليهودية وإسرائيل.

يزخر المجتمع الألماني بتنوع ديموغرافي ملحوظ، حيث يحتضن ما يقارب 200 ألف فرد من الديانة اليهودية، و300 ألف فلسطيني، بالإضافة إلى ما يناهز الـ 6 ملايين مسلم. يشدد القادة السياسيون الألمان على التزامهم الراسخ بحماية أمن وسلامة الجالية اليهودية في ألمانيا، وصون دولة إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، مؤكدين أنهم استخلصوا العبر والدروس من صفحات التاريخ.
إلا أن الخطاب الإعلامي المتداول حول المسلمين يشوبه قدر كبير من الإفراط والتجاوزات منذ زمن بعيد، وقد تفاقمت هذه الظاهرة بشكل مقلق منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وصل الخطاب السياسي إلى حد اعتبار إسرائيل "مصلحة ألمانية عليا" Staatsraison، بينما يتم تقديم السيد المسيح، في وسائل الإعلام والمناهج التربوية، على أنه شخصية يهودية أسيء فهمها من قبل فئة متعصبة من اليهود. وتصر المؤسسات الألمانية على دمج اليهودية بالمسيحية، والصهيونية بالسامية، والمشروع الإسرائيلي بالأمن القومي لألمانيا.
وفي تطور لافت، أدخلت السلطات الألمانية تعديلات جوهرية على هيكل اختبار الحصول على الجنسية، وهو اختبار كتابي يهدف إلى تقييم مدى معرفة المتقدم بتاريخ ألمانيا وجغرافيتها. وبموجب هذه التعديلات، يتعين على الراغبين في الحصول على الجنسية الألمانية الإجابة على سلسلة من الأسئلة المتعلقة بالديانة اليهودية ودولة إسرائيل.
على الرغم من أن غير اليهود يشكلون ثلث سكان دولة إسرائيل، فإن الخطاب الألماني، والغربي عمومًا، يصر على وصفها بـ "الدولة اليهودية". وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإنها ستتحول إلى مجرد مستوطنة غربية، وتلقى نفس مصير الظواهر الاستعمارية الأخرى.
المسجد الذي افتتح في العام 2018، بحضور الرئيس التركي أردوغان، كان بؤرة جدل على كل الصُّعد في ألمانيا منذ العام 1992، منذ بداية الفكرة
ويرى البعض أن يهودية إسرائيل تمنحها مكانة وحقًا في قلب التاريخ، وموقعًا متميزًا في منطقة الشرق الأدنى. وبالتالي، فإن اختيار الإجابة الخاطئة في الاختبار قد يضع الشخص في دائرة المعادين للسامية، وهي شريحة واسعة من الناس الذين لا يستحقون الانتماء إلى مجتمع لا يشاركونه قيمه. أصبحت اليهودية تحتل مكانة مركزية في منظومة القيم الأخلاقية الألمانية، وربما تهيمن عليها بالكامل، حيث لم يعد بإمكان الفرد أن يعتبر نفسه ألمانيًا أصيلًا إلا إذا كان يكن إجلالًا وتبجيلًا للمشروع الإسرائيلي.
وفي مستهل الحرب على غزة، صرح فريدريش ميرس، زعيم المعارضة الألمانية في البرلمان، بأن بلاده لن تستقبل لاجئين من غزة، مبررًا ذلك بقوله: "لدينا ما يكفي من معاداة السامية". وهكذا، أصبح الحديث عن وجود علاقة طردية بين معاداة السامية وتزايد أعداد المسلمين في ألمانيا أشبه بالحقيقة المطلقة.
وتردد وزارة الداخلية الألمانية نفس المزاعم، متجاهلة البيانات التي توفرها مؤسساتها والتي تتناقض بشكل صارخ مع هذه الادعاءات. فبحسب تقرير "الجرائم المحفزة سياسيًا PMK"، بلغ عدد المعابد اليهودية التي تعرضت للاعتداء في عام 2022 ثمانية وعشرين كنيسًا، وهو ما يمثل انخفاضًا بنسبة 43% مقارنة بالعام السابق.
وكشفت تفاصيل التقرير أن اليمين الألماني المتطرف ارتكب 17 حالة اعتداء، بينما نفذ اليسار الراديكالي 3 حالات، وتعذر على الأجهزة الأمنية تصنيف ست حالات، ونُسبت حالتا اعتداء إلى أيديولوجيات مستوردة من الخارج. وفي المقابل، كشف التقرير نفسه عن صورة قاتمة تعاني منها المؤسسات الدينية الإسلامية، وخاصة المساجد.
فعلى الرغم من التراجع الملحوظ (10%) في نسبة الاعتداءات على المنشآت الدينية في ألمانيا، فإن المساجد تشهد اتجاهًا معاكسًا. فقد سجلت وزارة الداخلية ارتفاعًا في مستوى العداء تجاه المساجد بنسبة 15% مقارنة بالعام السابق. وتتفق بيانات وزارة الداخلية مع ما ينشره مشروع Mediendienst Integration في برلين، حيث تشير بياناته إلى تعرض 95 مسجدًا للاعتداء في عام 2019، مقابل 22 حالة في عام 2010.
وفي عام 2020، أطلق متعصب ألماني النار على تسعة أشخاص من أصول مهاجرة في مدينة هاناو بولاية هيسن. وعلى إثر ذلك، شكل وزير الداخلية آنذاك، زيهوفر عن الائتلاف المسيحي، لجنة خبراء لدراسة الإسلاموفوبيا في ألمانيا. وبعد مرور أكثر من عامين، أصدرت لجنة الخبراء التسعة تقريرًا من 400 صفحة حول وضع معاداة الإسلام في ألمانيا.
وخلص التقرير إلى أن الإسلاموفوبيا ظاهرة بنيوية متجذرة في الخطاب والخيال الألماني. وفي الجزء المتعلق ببناء المساجد، ذكر التقرير أن هذه المسألة تثير نقاشًا وغضبًا واسعَين على مستويات مختلفة، وأن الحجج التي يتم طرحها في هذا النقاش تعكس مزاجًا معاديًا للإسلام Antiislamische Haltung. وبشكل عام، يشير التقرير إلى أن المسلمين يبنون مساجدهم في أماكن ومنشآت مهجورة مثل "قاعات المصانع والمستودعات والمحال التجارية".
وعلى النقيض من ذلك، تحظى المعابد اليهودية بمواقع متميزة في قلب المدن، وتنافس الكاتدرائيات في فخامتها المعمارية. وقد استشهد تقرير لجنة الخبراء بقضية مسجد كولن المركزي كدليل على وضع معاداة الإسلام في البلاد.
المسجد الذي افتتح في العام 2018، بحضور الرئيس التركي أردوغان، كان بؤرة جدل على كل الصُّعد في ألمانيا منذ العام 1992، منذ بداية الفكرة. ولاحظ الخبراء أن الجدل المثار، بما في ذلك اللغة المستخدمة في النقاش العام، يعكس موقفًا مسبقًا يرى الديانة الإسلامية في وضع أدنى، وغير مؤهلة للتعبير عن نفسها، وغير جديرة بالحضور في الفضاء العام Sichtbarkei.
وبعد أن أصبح المسجد مرئيًا، تحول الجدل إلى قضية أخرى: ليس من حق المرئي الأدنى أن يصبح مسموعًا Hörbarkeit der muslimischen Glaubenspraxis. ولا يزال الجدل قائمًا حول الدقائق الخمس التي مُنحت للأذان مرة واحدة في الأسبوع.
وبينما يحاضر الألمان الآخرون حول التنوع الديني، ويصدرون مع شركائهم الأوروبيين تقارير سنوية حول وضع حريتي الاعتقاد والتعبير في العالم، فإن فكرة بناء مسجد في مكان لائق وليس مجرد ورشة مهجورة أو مستودعًا، تتحول إلى تحدٍ وجودي للثقافة الألمانية.
تحاول ألمانيا جاهدة تصحيح أخطائها في القرن الماضي، لكن قدرتها لا تتسع إلا بالكاد لاستيعاب المسألة اليهودية. وفي المقابل، يفيض الحقل السياسي والإعلامي بالتعبيرات اللغوية المعادية للمسلمين، والتي تشبه إلى حد كبير تلك التي استخدمت ضد اليهود قبل قرن من الزمن. وتقول البرلمانية بيلمان عن الحزب المسيحي الديمقراطي: "يجب أن يكون حزبنا خاليًا من المسلمين، فالأمر يتعلق برؤيتنا المسيحية للإنسان، ولا يمكن للمسلم أن يكون جزءًا منها".
وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عقدت وزارة الداخلية مؤتمرًا في مدينة كولن كان الهدف منه التحذير من "الإسلاموفوبيا" التي يساهم نظام الحكم في صناعتها من خلال أدواته وأذرعه. إلا أن الأمور انحرفت عن مسارها المحدد، واتخذت المنحى الذي دأبت عليه.
فقد وقف الرئيس السابق لألمانيا، كريستيان فولف، على المنصة محذرًا مسلمي بلاده: "هذه ألمانيا وليست يثرب القرن السابع، ولا يمكنكم أن تفعلوا مع اليهود ما فعله محمد بهم". وتم استبعاد الاتحادات الإسلامية المعروفة من حضور المؤتمر المناهض للإسلاموفوبيا، بينما تحدثت وزيرة الداخلية مطولاً، مطالبة بأن تسمع في خطب الجمعة تسامحًا مع إسرائيل.
وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر، نُفي الشاعر اليهودي الألماني هاينرش هاينه إلى فرنسا وأُحرقت كتبه. وفي مسرحيته الشهيرة "المنصور"، التي تتناول قصة آخر حكام المسلمين في الأندلس، قال هاينه: "هناك حيث تحرق الكتب، سيحرق في النهاية الإنسان". وبعد قرن من الزمان، في ثلاثينيات القرن العشرين، وضع الألمان النازيون يهود أوروبا في المحرقة. ورغم ذلك، فشلت ثقافة الاستذكار في تقديم ما يكفي من العظة والعبرة. وها هي ألمانيا، بعد قرن آخر، تستعد للوقوف أمام محكمة العدل الدولية لدحض دعوى رفعتها نيكاراغوا تتهمها بالإسهام في ارتكاب إبادة بشرية.
لا يتحدث السياسيون الألمان علانية عن الإسلاموفوبيا، وعندما قدمت كتلة اليسار في البرلمان سؤالاً حول هذا الموضوع، ذكرت وزارة الداخلية وجود ألف حالة اعتداء مباشر على المسلمين، تتراوح بين التهديد وتخريب الممتلكات والإصابات الجسدية الخطيرة. وصنفت وزارة الداخلية الجرائم المسجلة ضد المسلمين، أفرادًا وممتلكات، ضمن فئة "الجنح الجنائية"، بينما لم يتجاوز عدد "الجنح الجنائية" التي تعرض لها اليهود 68 حالة.
تهيم سحب كثيفة من الخطاب المقلق حول سلامة اليهود في سماء ألمانيا، ويعتمد المثقفون الألمان في مقاربتهم لهذه القضية على دراسات مضللة تستطلع انطباعات اليهود عن المجتمع بدلاً من الاعتماد على بيانات واقعية.
ففي استطلاعات عديدة، أعرب أكثر من ثلث اليهود الألمان عن اعتقادهم بأن المسلمين يشكلون خطرًا على حياتهم، إلا أن بيانات وزارة الداخلية تؤكد أن الخطر الحقيقي يأتي من داخل المجتمع الألماني، من أقصى اليمين واليسار. وفيما يتعلق بالمسلمين، فإن الأمر يتجاوز مجرد الانطباعات إلى الوقائع الملموسة. فلا تزال نسبة الألمان الذين يرون في الإسلام خطرًا تتراوح بين 50 و60% منذ عام 2012، وفقًا للاستطلاعات الدورية التي تجريها مؤسسة بيرتيلسمان.
وتماشيًا مع نتائج مؤسسة بيرتيلسمان، أشارت دراسة أجريت في مدينة ليبتزيغ إلى أن 40% من سكان شرق ألمانيا، حيث تتركز قوة حزب البديل الراديكالي، يرغبون في منع المسلمين من دخول ألمانيا. وفي عموم ألمانيا، يؤيد 27% من السكان هذا الرأي نفسه.
تتجاوز الإسلاموفوبيا في نسختها الألمانية مجرد التحيز الديني لتشمل المظاهر العربية برمتها. فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قامت ألمانيا بتجريم الأيقونات الفلسطينية، ومنحت مديري المدارس الحق في معاقبة التلاميذ الذين يحملون العلم أو الكوفية الفلسطينية. وأصبحت هذه الأيقونات تعتبر بمثابة معاداة صريحة للسامية "تتناقض مع قيمنا ولا تنتمي إلى مجتمعنا المتسامح"، كما هو الشعار الخطابي السائد اليوم.
وكأن الوجود المادي للعربي-المسلم، قبل أي فعل أو كلام، أصبح يشكل تهديدًا وجوديًا للسامية. ففي الأيام الماضية، تناقلت وسائل الإعلام الألمانية خبرًا عن عزم نشطاء مسلمين، بالإضافة إلى يساريين ويهود مناهضين للصهيونية، عقد مؤتمر لفلسطين في برلين في الفترة من 12 إلى 14 أبريل الجاري. ووفقًا لجدول أعمال المؤتمر، فإنه سيدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، وسيُطالب ألمانيا وإسرائيل بدفع تعويضات للفلسطينيين جراء ما لحق بهم من أضرار.
وسيُطالب المؤتمر، وفقًا لبيان منظميه، بالتوقف عن تجريم الأنشطة المتضامنة مع الفلسطينيين. وقد تسابقت الصحف الألمانية في الهجوم على فكرة المؤتمر ومنظميه، وشمل الهجوم أولئك "اليهود المعزولين عن مجتمعهم"، كما تصفهم وسائل الإعلام الألمانية، في إشارة إلى جمعية "أصوات يهودية من أجل السلام في الشرق الأدنى".
وقد انهالت الأوصاف القدحية على المؤتمر، فوصف بأنه "مؤتمر العار" و"مؤتمر الكراهية" و"مؤتمر الإرهاب الوقح"، وتنافست وسائل الإعلام في التشهير بالمؤتمر ومنظميه وضيوفه. ولم يفصح المنظمون عن أسماء الضيوف خشية قيام السلطات الألمانية بإصدار قرار بمنعهم من دخول البلاد.
ورغم أن أسماء الضيوف ظلت مجهولة، إلا أنهم وُصفوا بأوصاف بالغة.
فهم معادون للسامية، ومنكرون للهولوكوست، ومجموعة من المتعاطفين مع الإرهاب، وممن يدعون إلى محو إسرائيل من الوجود، وفقًا لتقرير تحريضي نشرته صحيفة تاغيس-شبيغل. وقد بادرت الأجهزة الأمنية إلى اقتحام منازل الداعين للمؤتمر، وصادرت ما عثرت عليه من وثائق ومستندات.
في مثل هذه الأجواء، قد يرى المرء ممارسات أشبه بمداهمات الفجر التي كانت تمارسها الأنظمة الدكتاتورية، وهو ما باتت تترفع عنه حتى الدكتاتوريات العسكرية. ولم يعد خبرًا نادرًا أن تداهم الأجهزة الأمنية منزل جراح أوعية دموية من أصول فلسطينية في الرابعة فجرًا بسبب نشاطه السياسي. كما لا يخفى على أحد توتر الكلمات على شفتي مراسلة راديو ألمانيا عندما يُوجه إليها سؤال حول ردود الفعل على دعوة مخرج فلسطيني في مؤتمر برلين السينمائي إلى وقف إطلاق النار.
بات العاملون في المجالات الثقافية والإعلامية يخشون أن تنطق شفاههم بكلمات غير مناسبة. وقد ألقت مديرة معرض فرانكفورت للكتاب خطابًا حادًا أمام الحضور في الخريف الماضي، وقالت لهم: "لا نريد أن نسمع كلمة 'لكن'". لم تعد الثقافة الألمانية تحتمل "لكن"، وبات بإمكان المرء أن يعرب عن رأيه شريطة أن يقول الكلمات الصحيحة، على حد تعبير الفنان واي-واي، وهو مثقف وفنان تشكيلي رفيع فر من بلاده في عام 2015 قاصدًا العالم الحر، ليجده -على حد قوله- أقل تسامحًا مع حرية التعبير مما خبره في العاصمة بكين.
